لطالما تميز الإنسان بقدرته على الإبداع(Creativity)، تلك الميزة التي ميزته عن بقية المخلوقات، ومكنته من رسم لوحات فنية خالدة، وتأليف موسيقى عذبة، وكتابة قصص تُخلّد عبر العصور. ومع ثورة التكنولوجيا، ظهر لاعب جديد على الساحة، مقدما إمكانات هائلة لتعزيز قدراتنا الإبداعية إنه الذكاء الاصطناعي بكل تقنياته وخوارزمياته التي توجت جهودا مضنية للعلماء والمهندسين على مدار عقود من الزمن.
ما هو الإبداع؟
يمكن أن يعرف الإبداع بتعريفات مختلفة ومن وجهات نظر متعددة بحسب العلوم والمناهج التي تتناول هذه الظاهرة الإنسانية الفريدة، إلا أننا في المجالات التقنية والهندسية نميل إلى تعريف الإبداع إجرائيا على أنه إنتاج جديد ومفيد وأصيل ومقبول اجتماعياً، ويحل مشكلة ما بشكل منطقي ومنظم.
إن الإبداع في جوهره هو تلك العملية العقلية التي تُنتج أفكارًا جديدة ومبتكرة، تُساهم في حل المشكلات بطرقٍ غير تقليدية. ويُمكن أن يتجلى الإبداع في مختلف المجالات، من الفنون والآداب إلى العلوم والتكنولوجيا.
العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والعمل الإبداعي:
الذكاء الاصطناعي هو فرع من فروع علوم الكمبيوتر يُعنى بإنشاء آلاتٍ ذكيةٍ تُحاكي القدرات البشرية، مثل التعلم والتفكير وحل المشكلات. ويعدّ الذكاء الاصطناعي التوليدي(Generative artificial intelligence/GAI) أحد أهم مجالات الذكاء الاصطناعي اليوم، حيث يُركز على تطوير خوارزمياتٍ قادرة على إنشاء محتوى جديدٍ، مثل النصوص والصور والموسيقى.
لطالما اعتُبر الإبداع حكراً على البشر، إلا أن التطورات الأخيرة في الذكاء الاصطناعي تُشير إلى إمكانية مشاركة الآلات للإنسان في هذه العملية. فبفضل الذكاء الاصطناعي التوليدي، أصبحت الآلات قادرة على:
- تحليل كميات هائلة من البيانات: يُمكن للذكاء الاصطناعي تحليل كميات هائلة من البيانات، مثل النصوص والصور والأصوات، واستخلاص أنماطٍ وعلاقاتٍ خفيةٍ قد لا يستطيع الإنسان ملاحظتها.
- توليد أفكارٍ جديدة: باستخدام تقنياتٍ متقدمة للتعلم العميق(Deep Learning)، يُمكن للذكاء الاصطناعي توليد أفكارٍ جديدةٍ ومبتكرةٍ في مختلف المجالات.
- توسيع نطاق الإبداع: يُمكن للذكاء الاصطناعي مساعدة الإنسان على تجاوز حدوده الإبداعية، وذلك من خلال اقتراح أفكارٍ خارجة عن المألوف أو من خلال تنفيذ أفكارٍ يصعب تحقيقها بالطرق التقليدية.
أمثلة على استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في الأعمال الإبداعية:
1. الفنون:
- يستخدم الفنان الأمريكي (Robbie Barrat)، تقنيات الشبكات العصبية العميقة لإنشاء لوحاتٍ فنيةٍ تجريديةٍ مُذهلةٍ، يتجاوز فيها حدود الفن التقليدي، وقد قام مؤخرا بافتتاح استوديو للفن والتصميم في باريس.
- يوظف الفنان والإعلامي التركي الأمريكي(Refik Anadol) خوارزميات التعلم الآلي المبنية على البيانات لإنشاء عروضٍ ضوئيةٍ تفاعليةٍ وخلق بيئات مجردة وملونة تُحوّل الفضاءات إلى لوحاتٍ فنيةٍ نابضة بالحياة، حيث يعرض أعماله في معرض(bitforms)، في لوس أنجلوس.
- يقدم مشروع جوجل(Google Arts & Culture)، فرصة للجمهور لاستكشاف أهم الأعمال الفنية والتحف الثقافية من أشهر متاحف العالم باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، حيث يستخدم تقنية الصور والفيديو عالية الدقة التي تمكن المشاهد من القيام بجولة في مجموعات ومعارض المنظمات الشريكة حول العالم واستكشاف المعلومات المادية والسياقية للأعمال الفنية. كما تتضمن المنصة إمكانات بحث متقدمة وأدوات تعليمية جذابة.
“AI Artist Robbie Barrat And Painter Ronan Barrot Collaborate On “Infinite Skulls
2. التصميم:
- تستخدم شركة(Nike)، الذكاء الاصطناعي لتصميم أحذية رياضية مخصصة لكل رياضي على حدة، مما يجعل منها الشركة الأولى عالميا في إنتاج الأحذية الرياضية عالية الجودة للرياضيين حول العالم
- تقوم شركة أوتوديسك بإنتاج برنامج(Autodesk Dreamcatcher) الذي يعتبر الجيل التالي من منتجات الشركة الرائدة في مجال التصميم باستخدام الحاسوب، وهو نظام تصميم يعتمد على الذكاء الاصطناعي التوليدي، ويمكن المصممين من صياغة تعريف مشكلة التصميم الخاصة بهم وأهداف هذا التصميم، ثم يتم استخدام هذه المعلومات لتجميع حلول التصميم البديلة التي تلبي الأهداف. وبذلك يستطيع المصممون استكشاف كل البدائل الممكنة لتصميم المنتج واختيار حلول التصميم المناسبة للتصنيع.
3. الكتابة:
- برنامج(Grammarly) الشهير يعتمد على الذكاء الاصطناعي لتصحيح الأخطاء النحوية والهجائية في اللغة الإنجليزية، بالإضافة للكثير من الخدمات الأخرى التي تساعد المستخدمين حول العالم من الكتابة بصورة صحيحة وخالية من الأخطاء.
- منصة(Jasper) ترتكز على الذكاء الاصطناعي لمساعدة الشركات على كتابة محتوى تسويقيٍ جذاب، مثل مقالات المدونات ومنشورات الوسائط الاجتماعية ورسائل البريد الإلكتروني الخاصة بالمبيعات ونسخ موقع الويب وغير ذلك من الخدمات.
- نموذج(OpenAI Whisper)هو عبارة عن نموذج لغوي للتعلم الآلي من شركة OpenAI يستخدم للتعرف على الكلام(Speech Recognition) وتحويله إلى نص مكتوب، وتم تقديمه لأول مرة كبرنامج مفتوح المصدر في سبتمبر 2022. وهو قادر على تمييز الكلام باللغة الإنجليزية بلهجاتها المختلفة والعديد من اللغات الأخرى وتحويله إلى نص مكتوب بدقة كبيرة، كما أنه قادر على ترجمة العديد من اللغات غير الإنجليزية.
تلك هي بعض الاستخدامات الإبداعية لثورة الذكاء الاصطناعي التوليدي، كما توجد تطبيقات أخرى كثيرة في مجالات التسويق والبحث العلمي وغيرها التي تمتلك تطبيقاتها ومنصاتها المبنية على تقنيات الذكاء الاصطناعي، إلا أن كل هذا التقدم لم يخل من بعض المشاكل المرافقة لهذه التطبيقات الحديثة، ولعل ابرز هذه التحديات يتمثل في التالي:
التحديات الأخلاقية:
- التحيز: قد تعكس أنظمة الذكاء الاصطناعي تحيزات موجودة في البيانات التي تم تدريبها عليها، مما قد يؤدي إلى نتائجٍ غير عادلة أو تمييزية،لذلك من المهم التأكد من أن أنظمة الذكاء الاصطناعي تم تدريبها على بيانات متنوعة تمثل مختلف شرائح المجتمع، ولا تنحاز لثقافة أو طائفة بعينها.
- الملكية الفكرية: من غير الواضح من يملك حقوق النشر للمحتوى المُنتج بواسطة الذكاء الاصطناعي، هل هو المطور أم المستخدم أم مالك البيانات؟ لذلك توجد حاجة حقيقية إلى قوانين جديدة لتنظيم ملكية حقوق النشر للمحتوى المُنتج آليا.
الوظائف:
قد يؤدي استخدام الذكاء الاصطناعي إلى فقدان بعض الوظائف، خاصةً تلك التي تتطلب مهام روتينية يمكن أتمتتها. هذا يتطلب المزيد من الاستثمار في برامج إعادة التأهيل والتدريب لمساعدة العاملين على التكيف مع التغييرات في سوق العمل، واكتساب مهارات ومعارف جديدة تواكب هذا التغيير.
التأثير على المجتمع:
قد يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى تغييرٍ جذريٍّ في طريقة عيشنا وعملنا وتفاعلنا مع العالم من حولنا، وهذا ما بدأنا نشاهد تأثيره الواضح على البشر والمجتمعات، لذلك من المهم مناقشة التأثير الاجتماعي للذكاء الاصطناعي بشكل مفتوح وصادق لضمان استخدامه بشكل مسؤول.
اقرأ أيضا: الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته
خاتمة:
يُمثل الذكاء الاصطناعي ثورة حقيقية في مجال الإبداع، فهو يُقدم أدوات جديدة وإمكانات لا حصر لها لتعزيز قدراتنا الإبداعية واكتشاف آفاقٍ جديدة للتعبير عن أنفسنا. ومع استمرار تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، نتطلع إلى مستقبل مليء بالإبداع والابتكار، لكن من المهم أن نتذكر أن الذكاء الاصطناعي هو أداة تساعد الإنسان على الإبداع، لا بديلًا عنه.
لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محل الإبداع البشري والذكاء العاطفي، ولا يزال الإنسان هو من يمتلك السلطة على الذكاء الاصطناعي ويحدد كيفية استخدامه. لذا، فإن مفتاح المستقبل يكمن في التعاون بين الإنسان والآلة من خلال العمل معا.
وأخيرًا، من المهم التأكد من أن الذكاء الاصطناعي يتم تطويره واستخدامه بطريقة أخلاقية تراعي مصالح البشرية، ويجب علينا إنتاج أنظمة ذكاء اصطناعي عادلة وغير متحيزة، وضمان استخدامها لتحسين حياة الناس وليس لإلحاق الضرر بهم. مع التخطيط المدروس والتعاون الجيد، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعدنا على خلق عالم أكثر إبداعا وابتكارا وازدهارا.
لا توجد تعليقات